فصل: ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر وصول ملك الألمان إلى الشام

في هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده وهم نوع من الفرنج من أكثرهم عددًا وأشدهم بأسًا وكان قد أزعجه ملك الإسلام البيت المقدس فجمع عساكره وأزاح علتهم وسار عن بلاده وطريقه على القسطنطينية فأرسل ملك الروم بها إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعد أنه لا فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينة عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه لكنه منع عنهم الميرة ولم يمكن أحدًا من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم فضاقت بهم الأزواد والأقوات وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينية وصاروا على أرض بلاد الإسلام وهي مملكة الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق‏.‏

فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأوج فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديدًا والثلج متراكمًا فأهلكهم البرد والجوع والتركمان فقل عددهم‏.‏

فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنعهم فلم يكن له بهم قوة فعاد إلى قونية وبها أبوه قد حجر ولده المذكور عليه وتفرق أولاده في بلاده وتغلب كل واحد منهم على ناحية منها فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره فنازلوا قونية وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له‏:‏ ما قصدنا بلادك ولا أردناها وإنما قصدنا البيت المقدس وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره فأذن في ذلك فأتاهم ما يريدون فشبعوا وتزودوا وساروا ثم طلبوا من قطب الدين أن يأمر رعيته بالكف عنهم وأن يسلم إليهم جماعة من أمرائه رهائن وكان يخافهم فسلم إليهم نيفًا وعشرين أميرًا كان يكرههم فساروا بهم معهم ولم يمتنع اللصوص وغيرهم من قصدهم والتعرض إليهم فقبض ملك الألمان على من منعه من الأمراء وقيدهم فمنهم من هلك في أسره ومنهم من فدى نفسه‏.‏

وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون فأمدهم بالأقوات والعلوفات وحكمهم في بلاده وأظهر الطاعة لهم ثم ساروا نحو أنطاكية وكان في طريقهم نهر فنزلوا عنده ودخل ملكهم إليه ليغتسل فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل وكفى الله شره‏.‏

وكان معه ولد له فصار ملكًا بعده وسار إلى أنطاكية فاختلف أصحابه عليه فأحب بعضهم العود إلى بلاده فتخلف عنه وبعضهم مال إلى تمليك أخ له فعاد أيضًا وسار فيمن صحت نيته له فعرضهم وكانوا نيفًا وأربعين ألفًا ووقع فيهم الوباء والموت فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور فتبرم بهم صاحبها وحسن لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكا فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون وخرج أهل حلب وغيرها إليهم وأخذوا منهم خلقًا كثيرًا ومات أكثر ممن أخذ فبلغوا طرابلس وأقاموا بها أيامًا فكثر فيهم الموت فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا ولما وصولا ورأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد‏.‏

وكان الملك قلج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم ويعده أنه يمنعهم من العبور في بلاده فلما عبروها وخلفوها أرسل يعتذر بالعجز عنهم لأن أولاده حكموا عليه وحجروا عليه وتفرقوا عنه وخرجوا عن طاعته‏.‏

وأما صلاح الدين عند وصول الخبر بعبور ملك الألمان فإنه استشار أصحابه فأشار كثير منهم عليه بالمسير إلى طريقهم ومحاربتهم قبل أن يتصلوا بمن على عكا فقال‏:‏ بل نقيم إلى أن يقربوا منا وحينئذ نفعل ذلك لئلا يستسلم من بعكا من عساكرنا لكنه سير بعض من عنده من العساكر منها عسكر حلب وجبلة ولاذقية وشيزر وغير ذلك إلى أعمال حلب ليكونوا في أطراف البلاد يحفظونها من عاديتهم وكان حال المسلمين كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب 10‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فكفى الله شرهم ورد كيدهم في نحرهم‏.‏

ومن شدة خوفهم أن بعض أمراء صلاح الدين كان له ببلد الموصل قرية وكان أخي رحمه الله يتولاها فحصل دخلها من حنطة وشعير وتبن فأرسل إليه في بيع الغلة فوصل كتابه يقول‏:‏ لا تبع الحبة الفرد واستكثر لنا من التبن ثم بعد ذلك وصل كتابه يقول‏:‏ تبيع الطعام فما بنا حاجة إليه ثم إن ذلك الأمير قدم الموصل فسألناه عن المنع من بيع الغلة ثم الإذن فيها بعد مدة يسيرة فقال‏:‏ لما وصلت الأخبار بوصول ملك الألمان أيقنا أننا ليس لنا بالشام مقام فكتبت بالمنع من بيع الغلة لتكون ذخيرة لنا إذا جئنا إليكم فلما أهلكهم الله تعالى وأغنى عنها كتبت ببيعها والانتفاع بثمنها‏.‏

  ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا

و في هذه السنة في العشرين من جمادى الآخرة خرجت الفرنج فأرسلها وراجلها من وراء خنادقهم وتقدموا إلى المسلمين وهم كثير لا يحصى عددهم وقصدوا نحو عسكر مصر ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا فانحاز المصريون عنهم ودخل الفرنج خيامهم ونهبوا أموالهم فعطف المصريون عليهم فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا وكانوا متصلين كالنمل فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم وأخذتهم السيوف من كل ناحية فلم ينج منهم إلا الشريد وقتل منهم مقتلة عظيمة يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل‏.‏

وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر وكان مقدمهم علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل فحملوا أيضًا على الفرنج وبالغوا في قتالهم ونالوا منهم نيلًا كثيرًا هذا جميعه ولم يباشر القتال أحد من الحلقة التي مع صلاح الدين ولا أحد من الميسرة وكان بها عماد الدين زنكي صاحب سنجار وعسكر إربل وغيرهم‏.‏

ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم ولانت عريكتهم وأشار المسلمون على صلاح الدين بمباكرتهم القتال ومناجزتهم وهم على هذه الحال من الهلع والجزع فاتفق أنه وصله من الغد كتاب من حلب يخبر فيه بموت ملك الألمان وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهنًا على وهنهم وخوفًا على خوفهم فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند كبير من الكنود البحرية يقال له الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس لأبيه وابن أخي ملك انكلتار لأمه ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء فوصل إلى الفرنج فجند الأجناد وبذل الأموال فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضًا فتماسكوا وحفظوا مكانهم ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الخروبة في السابع والعشرين من جمادى الآخرة ليتسع المجال وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى‏.‏

ثم إن الكند هري نصب منجنيقًا ودبابات وعرادات فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها وقتلوا عندها كثيرًا من الفرنج ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقًا فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق فعمل تلًا من تراب بالبعد من البلد‏.‏

ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج ويستترون به ويقربونه إلى البلد فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق نصبوا وراءه منجنيقين وصار التل سترة لهما وكانت الميرة قد قلت بعكا فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا فتأخر إنفاذها فسير إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك فسير بطسة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان فلما وصلوا إلى عكا لم يشك الفرنج أنها لهم فلم يتعرضوا لها فلما حاذت ميناء عكا أدخلها من بها ففرح بها المسلمون وانتعشوا وقيت نفوسهم وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة من الإسكندرية‏.‏

وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل فأخذت بنواحي الإسكندرية وأخذ من معها ثم إن الفرنج وصلهم كتاب من بابا وهو كبيرهم الذي يصدرون عن أمره وقوله عندهم كقول النبيين لا يخالف والمحروم عندهم من حرمه والمقرب من قربه وهو صاحب رومية الكبرى يأمرهم بملازمة ما هم بصدده ويعلمهم أنه قد أرسل إلى جميع الفرنج يأمرهم بالمسير إلى نجدتهم برًا وبحرًا ويعلمهم بوصول الأمداد إليهم فازدادوا قوة وطمعًا‏.‏

  ذكر خروج الفرنج من خنادقهم

لما تتابعت الأمداد إلى الفرنج وجند لهم الكند هري جمعًا كثيرًا بالأموال التي وصلت معه عزموا على الخروج من خنادقهم ومناجزة المسلمين فتركوا على عكا من يحصرها ويقاتل أهلها وخرجوا حادي عشر شوال في عدد كالرمل كثرة وكالنار جمرة فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون وهو على ثلاثة فراسخ عن عكا وكان قد عاد إليه من فرق من عساكره لما هلك ملك الألمان ولقي الفرنج على تعبئة حسنة‏.‏

وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر مما يلي القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة ومعه عساكر مصر ومن انضم إليهم وكان في الميسرة عماد الدين صاحب سنجار وتقي الدين صاحب حماة ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر مع جماعة من أمرائه واتفق أن صلاح الدين أخذه مغس كان يعتاده فنصب له خيمة صغيرة على تل مشرف على العسكر ونزل فيها ينظر إليهم فسار الفرنج شرقي نهر هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر فشاهدوا عساكر الإسلام وكثرتها فارتاعوا لذلك ولقيهم الجالشية وأمطروا عليهم من السهام ما كاد يستر الشمس فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربي النهر ولزمهم الجالشية يقاتلونهم والفرنج قد تجمعوا ولزم بعضهم بعضًا وكان غرض الجالشية أن تحمل الفرنج عليهم فيلقاهم المسلمون ويلتحم القتال فيكون الفصل ويستريح الناس وكان الفرنج قد ندموا على مفارقة خنادقهم فلزموا مكانهم وباتوا ليلتهم تلك‏.‏

فلما كان الغد عادوا نحو عكا ليعتصموا بخندقهم والجالشية في أكتافهم يقاتلونهم تارة بالسيوف وتارة بالرماح وتارة بالسهام وكلما قتل من الفرنج قتيل أخذوه معهم لئلا يعلم المسلمون ما أصابهم فلولا ذلك الألم الذي حدث بصلاح الدين لكانت هي الفصيل وإنما لله أمر هو بالغه فلما بلغ الفرنج خندقهم ولم يكن لهم بعدها ظهور منه عاد المسلمون إلى خيامهم وقد قتلوا وفي الثالث والعشرين من شوال أيضًا كمن جماعة من المسلمين وتعرض للفرنج جماعة أخرى فخرج إليهم أربع مائة فارس فقاتلهم المسلمون شيئًا من قتال وتطاردوا لهم وتبعهم الفرنج حتى جازوا الكمين فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد‏.‏

واشتد الغلاء على الفرنج حتى بلغت غرارة الحنطة أكثر من مائة دينار صوري فصبروا على هذا وكان المسلمون يحملون إليهم الطعام من البلدان منهم الأمير أسامة مستحفظ بيروت كان يحمل الطعام وغيره ومنهم سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب كان يحمل من صيدا أيضًا إليهم وكذلك من عسقلان وغيرها ولولا ذلك لهلكوا جوعًا خصوصًا في الشتاء عند انقطاع مراكبهم عنهم لهياج البحر‏.‏

  ذكر تسيير البدل إلى عكا والتفريط فيه حتى أخذت

لما هجم الشتاء وعصفت الرياح خاف الفرنج على مراكبهم التي عندهم لأنها لم تكن في الميناء فسيروها إلى بلاد صور والجزائر فانفتح الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون الضجر والملل والسآمة وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين مقدمًا على جندها فأمر صلاح الدين بإقامة البدل وإنفاذه إليها وإخراج من فيها وأمر أخا الملك العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر ونزل تحت جبل حيفا وجمع المراكب والشواني وكلما جاءه جماعة من العسكر سيرهم إليها وأخرج عوضهم فدخل إليها عشرون أميرًا وكان بها ستون أميرًا فكان الذين دخلوا قليلًا بالنسبة إلى الذين خرجوا وأهمل نواب صلاح الدين تجنيد الرجال وإنفاذهم‏.‏

وكان على خزانة ماله قوم من النصارى وكانوا إذا جاءهم جماعة قد جندوا تعنتوهم بأنواع شتى تارة بإقامة معرفة وتارة بغير ذلك فتفرق بهذا السبب خلق كثير وانضاف إلى ذلك تواني صلاح الدين ووثوقه بنوابه وإهمال النواب فانحسر الشتاء والأمر كذلك وعادت مراكب الفرنج إلى عكا وانقطع الطريق إلا من سابح يأتي بكتاب‏.‏

وكان من جملة الأمراء الذين دخلوا إلى عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وعز الدين أرسل مقدم الأسدية بعد جاولي وابن جاولي وغيرهم وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين وكان قد أشار جماعة على صلاح الدين بأن يرسل إلى من بعكا النفقات الواسعة والذخائر والأقوات الكثيرة ويأمرهم بالمقام فإنهم قد جربوا وتدربوا واطمأنت نفوسهم على ما هم فيه فلم يفعل وظن فيهم الضجر والملل وأن ذلك يحملهم على العجز والفشل فكان الأمر بالضد‏.‏

كان زين الدين يوسف بن زين الدين علي صاحب إربل قد حضر عند صلاح الدين بعساكره فمرض ومات ثامن عشر شهر رمضان وذكر العماد الكاتب في كتابه البرق الشامي قال‏:‏ جئنا إلى مظفر الدين نعزيه بأخيه وظننًا به الحزن وليس له أخ غيره ولا ولد يشغله عنه فإذا هو في شغل شاغل عن العزاء مهتم بالاحتياط على ما خلفه وهو جالس في خيام أخيه المتوفي وقد قبض على جماعة من أمرائه واعتقلهم وعجل عليهم وما أغفلهم منهم بلداجي صاحب قلعة خفتيذكان وأرسل إلى صلاح الدين يطلب منه إربل لنزل عن حران والرها فأقطعه إياها وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودربند قرابلي وبنيث قفجاق ولما مات زين الدين كاتب من كان بإربل مجاهد الدين قايماز لهواهم فيه وحسن سيرته فيهم وطلبوه إليهم لملكوه فلم يجسر هو ولا صاحبه عز الدين أتابك مسعود بن مودود على ذلك خوفًا من صلاح الدين‏.‏

وكان أعظم الأٍسباب في تركها أن عز الدين كان قد قبض على مجاهد الدين فتمكن زين الدين من إربل ثم إن عز الدين أخرج مجاهد الدين من القبض وولاه نيابته وقد ذكرنا ذلك أجمع‏.‏

فلما ولاه النيابة عنه لم يمكنه وجعل معه إنسانًا كان من بعض غلمان مجاهد الدين فكان يشاركه في الحكم ويحل عليه ما يعقده فلحق مجاهد الدين من ذلك غيظ شديد فلما طلب إلى إربل قال لمن يثق به‏:‏ لا أفعل لئلا يحكم فيها فلان ويكف يدي عنها فجاء مظفر الدين إليها وملكها وبقي غصة في حلق البيت الأتابكي لا يقدرون على إساغتها‏.‏

وسنذكر ما اعتمده معهم مرة بعد أخرى إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها إلى المسلمين

في هذه السنة ملك ابن الرنك وهو من ملوك الفرنج غرب بلاد الأندلس مدينة شلب وهي من كبار مدن المسلمين بالأندلس واستولى عليها فوصل الخبر بذلك إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب الغرب والأندلس فتجهز في العساكر الكثيرة وسار إلى الأندلس وعبر المجاز وسير طائفة كثيرة من عسكره في البحر ونازلها وحصرها وقاتل من بها قتالًا شديدًا حتى ذلوا وسألوا الأمان فأمنهم وسلموا البلد وعادوا إلى بلادهم‏.‏

وسير جيشًا من الموحدين ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج ففتحوا أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة وفتكوا في الفرنج فخافهم ملك طليطلة من الفرنج وأرسل يطلب الصلح فصالحه خمس سنين وعاد أبو يوسف إلى مراكش وامتنع من هذه الهدنة طائفة من الفرنج لم يرضوها ولا أمكنهم إظهار الخلاف فبقوا متوقفين حتى دخلت سنة تسعين وخمسمائة فتحركوا‏.‏ وسنذكر خبرهم هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر الحرب بين غياث الدين وسلطان شاه بخراسان

كان سلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعرض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين ملكي الغورية من خراسان فتجهز غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة فبقي يتردد بين بلاد الطالقان وبنجده ومرو وغيرها يريد حرب سلطان شاه فلم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين فجمع سلطان شاه عساكره وقصد غياث الدين فتصافًا واقتتلا فانهزم سلطان شاه وأخذ غياث الدين بعض بلاده وعاد إلى غزنة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ربيع الأول تسلم الخليفة الناصر لدين الله حديثة عانة وكان سير إليها جيشًا حصروها سنة خمس وثمانين فقاتلوا عليها قتالًا شديدًا ودام الحصار وقتل من الفريقين خلق كثير فلما ضاقت عليهم الأقوات سلموها على أقطاع عينوها ووصل صاحبها وأهلها إلى بغداد وأعطوا أقطاعًا ثم تفرقوا في البلاد واشتدت الحاجة بهم حتى رأيت بعضهم وإنه ليتعرض و في هذه السنة توفي مسعود بن النادر الصفار ببغداد وكان مكثرًا من الحديث حسن الخط خيرًا ثقة‏.‏

وفيها توفي أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري بالموصل وكان قاضيها وقبلها ولي قضاء حلب وجميع الأعمال بها وكان رئيسًا جوادًا ذا مروءة عظيمة يرجع إلى دين وأخلاق جميلة‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة

  ذكر حصر عز الدين صاحب الموصل الجزيرة

في هذه السنة في ربيع الأول سار أتابك عز الدين مسعود بن مودود ابن زنكي صاحب الموصل إلى جزيرة ابن عمر فحصرها وكان بها صاحبها سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود وهو ابن أخي عز الدين‏.‏

وكان سبب حصره أن سنجر شاه كان كثير الأذى لعمه عز الدين والشناعة عليه والمراسلة إلى صلاح الدين في حقه تارة يقول إنه يريد قصد بلادك وتارة يقول إنه يكاتب أعداءك ويحثهم على قصدك إلى غير ذلك من الأمور المؤذية وعز الدين يصبر منه على ما يكره لأمور تارة للرحم وتارة خوفًا من تسليمها إلى صلاح الدين فلما كان في السنة الماضية سار صاحبها إلى صلاح الدين وهو على عكا في جملة من سار من أصحابه الأطراف وأقام عنده قليلًا وطلب دستورًا للعود إلى بلده فقال له صلاح الدين‏:‏ عندنا من أصحاب الأطراف جماع منهم عماد الدين صاحب سنجار وغيرها وهو أكبر منك ومنهم ابن عمك عز الدين وهو أصغر منك وغيرهم ومتى فتحت هذا الباب اقتدى بك غيرك فلم يلتفت إلى قوله وأصر على ذلك‏.‏

وكان عند صلاح الدين جماعة من أهل الجزيرة يستغيثون على سنجر شاه لأنه ظلمهم وأخذ أموالهم وأملاكهم فكان يخافه لهذا‏.‏

ولم يزل في طلب الإذن في العود إلى ليلة الفطر من سنة ست وثمانين فركب تلك الليلة في السحر وجاء إلى خيمة صلاح الدين أرسل يطلب الإذن عليه وكان صلاح الدين قد بات محمومًا وقد عرق فلم يمكن أن يأذن له فبقي كذلك مترددًا على باب خيمته إلى أن أذن له فلما دخل عليه هنأه بالعيد وأكب عليه يودعه فقال له‏:‏ ما علمنا بصحة عزمك على الحركة فتصبر علينا حتى نرسل ما جرت به العادة فما يجوز أن تنصرف عنا بعد مقامك عندنا على هذا الوجه‏.‏ فلم يرجع وودعه وانصرف‏.‏

وكان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قد أقبل من بلده حماة في عسكره فكتب إليه صلاح الدين يأمره بإعادة سنجر شاه طوعًا أو كرهًا فحكى له عن تقي الدين أنه قال‏:‏ ما رأيت مثل سنجر شاه لقيته بعقبة فيق فسألته عن سبب انصرافه فغالطني فقلت له‏:‏ سمعت بالحال ولا يليق أن تنصرف بغير تشريف السلطان وهديته فيضع تعبك وسألته العود فلم يصغ إلى قولي فكلمني كأنني بعض مماليكه فلما رأيت ذلك منه قلت له‏:‏ إن رجعت بالتي هي أحسن وإلا أعدتك كارهًا فنزل عن دابته وأخذ ذيلي وقال‏:‏ قد استجرت بك وجعل يبكي فعجبت من حماقته أولًا وذلته ثانيًا فعاد معي‏.‏

فلما عاد بقي عند صلاح الدين عدة أيام وكتب صلاح الدين إلى عز الدين أتابك يأمره بقصد الجزيرة ومحاصرتها وأخذها وأنه يرسل إلى طريق سنجر شاه ليقبض عليه إذا عاد فخاف عز الدين أن صلاح الدين قد فعل ذلك مكيدة ليشنع عليه بنكث العهد فلم يفعل شيئًا من ذلك بل أرسل إليه يقول‏:‏ أريد خطك بذلك ومنشورًا منك بالجزيرة فترددت الرسل في ذلك إلى أن انقضت سنة ست وثمانين ودخلت هذه السنة فاستقرت القاعدة بينهما فسار عز الدين إلى الجزيرة فحصرها أربعة أشهر وأيامًا آخرها شعبان ولم يملكها بل استقرت القاعدة بينه وبين سنجر شاه على يد رسول صلاح الدين فإنه كان قد أرسله بعد قصدها يقول‏:‏ إن صاحب سنجار وصاحب إربل وغيرهما قد شفعا في سنجر شاه فاستقر الصلح على أن لعز الدين وعاد عز الدين في شعبان إلى الموصل وكان صلاح الدين بعد ذلك يقول‏:‏ ما قيل لي عن أحد شيء من الشر فرأيته إلا كان دون ما يقال فيه إلا سنجر شاه فإنه كان يقال لي عنه شيئًا استعظمتها فلما رأيته صغر في عيني ما قيل فيه‏.‏

  ذكر عبور تقي الدين الفرات وملكه حران

وغيرها من البلاد الجزرية ومسيره إلى خلاط ومؤتة في هذه السنة في صفر سار تقي الدين من الشام إلى البلاد الجزرية‏:‏ حران والرها كان قد أقطعه إياها عمه صلاح الدين بعد أخذها من مظفر الدين مضافًا إلى ما كان له بالشام وقرر معه أنه يقطع البلاد للجند ويعود وهم معه إليه ليتقوى بهم على الفرنج فلما عبر الفرات وأصلح حال البلاد سار إلى ميافارقين وكانت له فلما بلغها تجدد له طمع في غيرها من البلاد المجاورة لها فقصد مدينة حاني من ديار بكر فحصرها وملكها وكان في سبع مائة فارس فلما سمع سيف الدين بكتمر صاحب خلاط بملكه حاني جمع عساكره وسار إليه فاجتمعت عساكره أربعة آلاف فارس فلما التقوا اقتتلوا فلم يثبت عسكر خلاط لتقي الدين بل انهزموا وتبعهم تقي الدين ودخل بلادهم‏.‏

وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رشيق وزير صاحبه شاه أرمن وسجنه في قلعة هناك فلما انهزم كتب إلى مستحفظ القلعة يأمره بقتل ابن رشيق فوصل القاصد وتقي الدين قد نازل القلعة فأخذ الكتاب وملك القلعة وأطلق ابن رشيق وسار إلى خلاط فحصرها ولم يكن في كثرة من العسكر فليم يبلغ منها غرضًا فعاد عنها وقصد ملازكرد وحصرها وضيق على من بها وطال مقامه عليها فلما ضاق عيهم الأمر طلبوا منه المهلة أيامًا ذكروها فأجابهم إليها‏.‏

ومرض تقي الدين فمات قبل انقضاء الأجل بيومين وتفرقت العساكر عنها وحمله ابنه وأصحابه ميتًا إلى ميافارقين وعاد بكتمر فقوي أمره وثبت ملكه بعد أن أشرف على الزوال وهذه الحادثة من الفرج بعد الشدة فإن ابن رشيق نجا من القتل وبكتمر نجا من أن يؤخذ‏.‏

  ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكا

و في هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا وكان أول من وصل منهم الملك فليب ملك إفرنسيس وهو من أشرف ملوكهم نسبًا وإن كان ملكه ليس بالكثير وان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس وكان صلاح الدين على شفرعم فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد وأرسل إلى الأمير أسامة مستحفظ بيروت يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا ففعل ذلك وسير الشواني في البحر فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالًا من أصحاب ملك انكلتار الفرنج كان قد سيرهم بين يديه وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها فأقبلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوهم وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال‏.‏

وكتب أيضًا صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا‏.‏

وأما الفرنج الذين على عكا فإنهم لازموا قتال من بها ونصبوا عليها سبعة مجانيق رابع جمادى الأولى فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم فقرب منهم‏.‏

وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم فكانوا يشتغلون بقتالهم فيخف القتال عمن بالبلد‏.‏

ثم وصل ملك انكلتار ثالث عشر جمادى الأولى‏.‏

وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس وأخذها من الروم فإنه لما وصل إليها غدر بصاحبها وملكها جميعًا فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كبارًا مملوءة رجالًا وأموالًا فعظم به شر الفرنج واشتدت نكايتهم في المسلمين‏.‏

وكان رجل زمانه شجاعة ومكرًا وجلدًا وصبرًا وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها‏.‏

ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بطسة كبيرة مملوءة من الرجال والعدة والقوت فجهزت وسيرت من بيروت وفيها سبع مائة مقاتل فلقيها ملك إنكلتار مصادفة فقاتلها وصبر من فيها على قتالها فلما أيسوا من الخلاص نزل مقدم من بها إلى أسفلها وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية يعرف بغلام ابن شقين فخرقها خرقًا واسعًا لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر فغرق جميع ما فيها‏.‏

وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم ثم إن الفرنج عملوا دبابات زحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها ثم عملوا كباشًا وزحفوا بها فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد وأخذوا تلك الكباش فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلًا كبيرًا من التراب مستطيلًا وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من ورائه لا ينالهم من البلد أذى حتى صار على نصف علوه فكانوا يستظلون به ويقاتلون من خلفه فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين فأرسلوا إلى